تراجع معدّل القراءة في المجتمع
التّونسي بشكلٍ واضحٍ و خطيرٍ في الوقت نفسه خاصّةً في السنوات الأخيرة، الأمر
الّذي أثار الدّهشة و الاستغراب و ذلك عندما نقارن هذا المعدّل بالمعدّلات
العالميّة الّتي تشهد ارتفاعًا ملحوظًا في الدّول المتقدّمة بشكل خاصّ.
الإقبال على مطالعة الكُتب في
تراجعٍ إن لم نقُل في أزمةٍ، و من البداهةِ أن نرى المكتبات و دُور الثّقافة شبه
فارغةٍ من الّذين يهتمّون بالكتب. فالفئة الّتي تُطالع أضحت ضئيلةً و أغلبيّة
الأشخاص لم يعُودوا يهتمّون بالمطالعة ممّا ولّد أزمةً قراءةٍ و عجزٍ في الكتابةِ
لدى كافّة الشرائح الصّاعدة.
القراءةُ عدوّة التّونسي
كشفت النتائج الأوّليّة لاستطلاع
لوزارةِ التّربية مِؤخّرًا شمل 1029 تونسي أنّ 7،5 بالمائة من
التّونسيّين لم تطأ أقدامهم مكتبة عموميّة و 22،74 بالمائة من بين
المُستجوَبين لم يطالعُوا طيلة حياتهم و إن اختلفت أسباب ضعف القراءة، لكن 18
في المائة قالوا أنّهم ببساطة لا يُحبّون المطالعة، وذلك بالرغم من أنّ تونس تمتلك
381 مكتبة عموميّة مُوزّعة على كافّة الولايات ولكن بصفة متفاوتة تتراوحُ بين 8
و26 مكتبة في كلّ ولاية.
كانت مدرسة "الهادي
العجلاني" إحدى المدارس بولاية القصرين المُنطلق الأوّل لرحلة البحث، مُستوى
تعليمي متدنٍّ...لغاتٌ تُعاني الاضمحلال و معلّمون يفتقرون الخبرةَ و
الكفاءةَ...بحيثُ تكون العصا سيّدُ الدّرس ممّا ولّد الرُّعب لدى التلميذ و أحدث
فراغًا فعاد ذلك بالسّلبِ على حالتِه النّفسيّة و أضحى عدُوًّا للقراءةِ و
الكتابةِ...كذلك استهتار المُعلّمين بقيمةِ البدايات الّتي يقوم عليها التّكوين
لكونها الفتيلَ الأوّل لاستخراج ملكةٍ مثقّفةٍ.
الرجُوع إلى الأميّة
و بسؤالِ أهالي المنطقة عن رأيهم
حول مدى قبُول أطفالهم لمبدأ المطالعة خارج نطاقِ الدّراسة أشاروا إلى ضعف مستوى
الجيل الجديد في اللّغة الفرنسيّة معتبرين أنّ هذا التراجع أساسه النظام التّربوي
الّذي وصفه البعض بالفاشل و البعض الآخر بالمختلّ و الضّعيف. و بيّن السيّد
"حاتم حسين"، الرّئيس السابق للغرفة الفتيّة بالقصرين، انّ الجيل الّذي
مرّ على المؤسّسة التّربويّة خلال العقدين الماضيين يُعتبر ضحيّةَ مدرسةٍ مردودها
ضعيف، فخرّجيها لا يُتقنون الفرنسيّة ولا الإنجليزية ولا حتّى الّلغة الأمّ...و هو
ما يتطلّب على حدّ تأكيده مراجعةً جذريّةً للنظام التّربوي و إعطاء مكانة أكبر
لتدريس اللّغات. وأجزم أنّ التميّز في النّطق و كتابة الّلغة الفرنسيّة حكرَا على
الّذين يدرسون في مؤسّساتٍ تعليميّةٍ خاصّةٍ و الحافزُ يعودُ إلى ترغيب التّلميذ
على المطالعة عبر عديد الأساليب و الطرق البيداغوجيّة مثل زيارة المكتبات و تعلّم
استعمال المعاجم.
الإحصائيّات المتوفّرة في بلادنا
تقتصر في الكثير من الأحيان على انتاج الكتب و نشرها، إذ أنّها وهميّةٌ أكثر منها
تقريبيّة فيما يتعلّق بالمطالعة، إذ تتراوحُ نسبة توزيع الكتب بين 1543 و606 كتاب
لكلّ ألف ساكن أي بمعدّل 1،65 ساكن حسب تصريحات أدلى بها السيّد "عليّ
المرزوقي" مدير إدارة المطالعة. والمُتمعّن في النسب يلاحظُ أنّها محدودة
خاصّة مع ما يتوفّر من كتب في تونس ومع مطالعيها حيث لا يتجاوز الرّقم الوطني في
مجال نسبة مطالعة المواطن للكتاب معدّل 1،02 كتاب... لأنّ الاستناد إلى المبيعات
من الكتاب التّونسي ليس مقياسًا للدّلالة على عدد القرّاء لأنّ الكتاب الواحد قد
يتداول عليه العديد من الأشخاص. ففي ما يخُصّ العائلة، فإنّ الطّفل أو الشّاب
الّذي لم يستأنس وجود كتاب بين كَفّي والديه ولاحظ أنّهما لا يُخصّصان وقتا
للمطالعة ولا يعيرانه أيّ اهتمام ولا يدفعانه للتعوّد على إتّخاذ الكتاب كرفيقٍ
فإنّه سيتّبع نفس التمشّي الّذي كان عليه والديه باعتبارهما قُدوةً له. والكلّ
موقنٌ أنّ معظم العائلات لا تُخصّص ركنًا ولو صغيرًا لمكتبة تضمُّ روايات لمجموعات
شعريّة وقصصا سواءً بالفرنسيّة أو العربيّة.
وحسب الإحصائيّات الصّادرة عن
إدارة المطالعة بوزارة الثقافة أنّ المكتبات العموميّة تفقد يوميًّا أعداد ضخمة من
رُوّادها، فقد بلغ عدد الإشتراكات في مُوفّى 2009 أكثر من 142 ألف مشترك مقارنة
بعدد المُتردّدين على المكتبات لسنة 1994 الّذي قُدّر بحوالي 420 ألف شخص.
فالمسألة المطروحة اليوم هي أزمة المطالعة
المتعلّقة بالكتاب الثّقافي لا الكتاب المدرسيّ، وبالرّجوع إلى ما جاء على لسان
السيّد "منذر" ،عون بمكتبة باب الأقواس والّتي تفتقر إلى الجانب الرّقمي،
فإنّ الأخذ بعين الاعتبار التردّد على المكتبات العموميّة قد لا يعني شيئًا لأنّ
المكتبة تُستعمل في الغالب كفضاءٍ لإعداد الدروس من التلاميذ و الطلبة خاصّةً في
فترة الامتحانات ليصل معدّل الطلبة الرّاغبين في المُراجعة نحو 30 شخص. وبالتّالي
أدّى إلى تفشّي ما يُسمّى "بالأميّة الثقافيّة" رغم انتشار التّعليم و
كثرة المُعلّمين، حتّى أنّ العديد من أصحاب الاختصاص و الشهادات العُليا قد عزفُوا
عن مطالعة الكتاب بل و الجريدة و المجلّة إلاّ ما يدخُل ضمن اهتماماتهم المهنيّة.
عوامل ظاهرها هامّ لكن باطنها أهمّ
من العوامل الّتي حالت دون حلّ
مشكل العزوف عن المطالعة تتعلّق بالمحيط و المؤسّسة التّعليميّة و بالبيئة الاجتماعية.
وقد اعتبرت السيّدة "ثريّا بلقاسمي"، أستاذة جامعيّة، أنّ الطفل أو
الشّاب الّذي لم يتعوّد في البيت على وجود الكتاب منذُ الصغر ولا يرى والديهِ يُخصّصان
وقتًا للمطالعة او رُكنًا لمكتبةٍ منزليّةٍ ولا يحُضّانه على ذلك فإنّه لا يهتمّ
بالكتاب. أمّا بالنسبة للمدرسة، فمن الملاحظ أنّ الإطار التّربوي يخصّص حصّةً
للمطالعة على أساس أنّه فرضٌ من الفروض وهو ما يعيقُ إحساسه بالمتعة. كما انّ
قلّةَ الكتب و نُدرتها في المؤسّسات و النّوادي يُمثّل من أكثر العوامل الّتي نخرت
المؤسّسة التّعليميّة منذُ زمنٍ. زد عليه ضغط الوقت الّذي أثقل كاهل التّلميذ و
المربّي بأعباء تطبيق البرامج و يعود بالتّحديد لاصطفاء نظام تعليمي معيّن.
و أعرب الكاتب الرّوائي
"عبدالرّحمان مجيد الرّبيعي" في مداخلةٍ لهُ بإحدى النّدوات عن أسفه
لاحتفاظ النّاشر التّونسي بالكتاب و لا
يُخرج منه إلاّ عدد النسخ الّتي يطلُبها بعض أصحاب المكتبات.
العزوف عن القراءة أسبابها أزمة الكتابة و الإبداع
إنّ المتمعّن في الوضعيّة الّتي آل
إليها الكتاب يعي أنّ أزمة القراءة في الأصل هي أزمة كتابةٍ و نُدرةِ إبداعٍ،
فالقارئ ليس مرآةً يُدمنُ الكاتب في إملاءِ نرجسيّةِ نجوميّته المفقودة. ذلك أنّه
كُلّما توفّر ما يستحقُّ القراءة فلن يبخل القارئ على نفسه حتّى ولو بتصفُّح بضع
أوراقٍ حسب اعتبار أحلام الّتي رفضت التّصريح بكنيتِها مؤكّدةً انّ العوائق الّتي
تحول دون انتشار الكتاب الثّقافي ولا سيّما الفلسفي والعقلاني والتقدّمي هي عدم
تقابل ذوق الكاتب مع ذوق القارئ و التجاءه إلى الثقافة الرّقميّة تفاديا للارتفاع
المُشطّ للأسعار.
ويرى الطفل في الوسائل الحديثة
الحلَّ الأمثل للحصول على المعلومة في وقتٍ وجيزٍ، فانشغل بالتّواصل مع أقرانه عبر
الشّبكات الاجتماعيّة. إذ كلّما توجّهتَ إلى قاعة انترنت إلاّ ووجدتَ الأعيُن
منصبّةٌ على الشّاشة فيُراودُكَ الفضُول لمعرفةِ سرِّ هذا الانتباه المفرط و إذا
به رفيق الدّرب الفايسبوك و المحادثات الجانبيّة، إذ يتوجّه التلميذ للإنترنيت
نظرًا لعامل قلّة الوقت حيثُ يضع المرء الإصبع على الدّاء الّذي لطالما نخر
المؤسّسة التّربويّة وأودى بها للهلاك منذُ أمد طويل...فالحالة النّفسيّة للتلميذ
أرهقها عبْ الدروس. كما أنّه لم يعُد يحمل في قاموسه معنًى للمطالعة ولم يعصد يستهويه
رغم كثرته وتنوّع عناوينه وثراء محتواه في ظلّ انشغاله بالدراسة ليلاً نهارًا،
فحتّى إن توفّرت لديه مساحة فراغ أخذت الوسائل السمعيّة البصريّة تلك
المساحة...فهي الوحيدة الّتي تجذب التلميذ والأطفال إلى أحضانها وكما لو أنّه
مُخدّر. فكم من السّاعات يقضّيها الطفل أمام التلفاز؟ وكم هي مؤسفة هي طول الأيّام
الّتي يقضّيها التّلميذ أو الطّالب أمام الحاسوب؟...ساعات وساعات ورُبّما دهرًا
بأكمله لو وجد الطفل إلى ذلك سبيلاً.
تقول السيّدة "منجيّة"
وليّةٌ وموظّفةٌ بإحدى المكتبات بالدندان أنّ أبناءها يرفضون مطالعة الكتب رغم
توفّرها بمكتبة المنزل، فهي كأمٍّ تُؤمن بأهميّة المطالعة في التّحصيل العلمي
النّافع وصقل عقول الأطفال وإثراء زادهم المعرفي والّلغوي. فرّغم أنّها حريصةٌ على
اقتناء مختلف أنواع القصص إلاّ أنّ أبناءها يقابلون ذلك بالعزوف ممّا أدخلها حالة
خوف على مستقبل أولادها مشيرة إلى أنّ أبناءها يميلون إلى اللّعب والإبحار على
النّات والتواصل عبر الشبكات الاجتماعيّة الفايسبوك، كما أعربت عن عجزها في
التّأثير عليهم لتؤكّد أنّ مهمّة ترغيب الأطفال على المطالعة تظلّ من مشمولات
المؤسّسة التّربويّة وذلك بالاعتماد على أساليب ومناهج تدعوه إلى الإستئناس
بالكتاب كرفيقٍ في كافّة الأوقات.
إنّ غزو الشبكة المعلوماتيّة
"الإنترنت" يعدُّ من أهمّ أسباب تراجع دور الكتاب لأنه أصبح يُشكّلُ
المنافس الأوّل، فبمُجرّد نقرةٍ أو كتابة كلمةٍ على لوحة المفاتيح يتوفّرُ للشّخص
كلّ ما يبحث عنه من معلوماتٍ بسرعة فائقة دون التنقّل من مكتبةٍ لأخرى، فتعدّدت
طرق إرضاء القارئ و تنوّعت و تنافست فيما بينها.
إلى جانب التّطوّر التّقني الهائل
في الاتصالات المتسبّب في تراجع مكانة الكتاب و استغناء أغلب أفراد المجتمع حيثُ
تمّت الاستعاضة عنهُ بالقنوات الفضائيّة مكان القراءة المعمّقة بالصوت و الصورة من
ناحية، و إلى الدور المتنامي للإنترنت الّتي يجد فيها الشّباب توفيرًا للوقت و
المجهود و لكمّ المعلومات.
هذه الأسباب و غيرها جعلت من
الغالبيّة العُظمى تنظر للكتاب على أنّه موضةٌ قديمة لا تفي بالغرضِ أمام التطوّر
التّكنولوجي مُتناسين الفضل العظيم الّذي قدّمته لنا الكتب سابقًا و آنفًا فهي
أوّل مستودعٍ للمعرفة.
ولتفادي رجوع ثقافة أطفالنا إلى
الصفر لا بدّ من الدّعوة إلى إحداث يوم مفتوح للمطالعة بكافّة المؤسّسات التربويّة
بكامل تراب الجمهوريّة وتحفيزهم على المطالعة من خلال التنويع في المسابقات
المحليّة والجهويّة والوطنيّة وذلك بأن يكون طرفًا رئيسيّا في العمليّة. كذلك يجب
الزيادة من البرامج التلفازية الّتي تُعنى بالكتاب وتعمل على ترغيب التلميذ على
المطالعة بطريقة ذكيّة كدعوته إلى المشاركة الفعّالة في ورشات عمل جماعيّة وإسناد
جوائز قيّمة للفائزين والمُبدعين.


Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire